منذ أن كنا صغاراً، كنا نستمع لحكايات عن شعب هجر من دياره بغير حق، شعب خلده التأريخ بصلابة إرادة، وقوة عزيمة، وتصميم على العودة للوطن. ومنذ أن وعينا أدركنا إن معنى الكوفية أسمى وأعمق من مجموعة خطوط متشابكة، ولون نهار غاضب يشق ليل الحزن المستمر والمستعر في قلوب المهاجرين والمهجرين..
مذ ذلك الوقت، أصبحت فلسطين تمثل جميع الثائرين والحالمين بالغد والحرية.. أصبحت فلسطين عنوان نضال وتأريخ انتصار متواصل يفخر به الأحرار، على إن شعب الخيام لا يزال يقاوم من جيل إلى جيل، ومن حلم إلى أخر، حتى موعد العودة إلى الميناء، والأرض والسماء..
ونحن أبناء العراق، أبناء الشهيد، أول ما تعلمناه كان( ف ل س ط ي ن) ، أولى أبجديات الحرية، وأولى دروب النور صوب الوطن.. آمنا كما لازلنا وأبداً سنؤمن أن لا شرعية لمغتصب ولا مستقبل لمحتل.. وإن الفلسطيني وإن تخلى يوماً عن أرضه، فعلينا نحن أن نواصل النضال لأجل فلسطين القدس، عكا، صفد طبريا، حيفا، يافا، جنين، بيسان، الناصرة، نابلس، رام الله، الرملة، الخليل، غزة، بئر السبع، بيت لحم، جنين، رفح، كل فلسطين..
حين كانت عيوننا تسقط على كف طفل أسمر يحمل بيديه حجارة ومقلاع، كانت قلوبنا تتقاذفها الفرحة وندرك إننا سننتصر يوماً ما..وحين كنا صغاراً، ونقرأ في درس الوطنية والقومية عن فلسطين، كان السؤال يلف أعمارنا: هل هم بشر أم أسطورة؟! ولكم رسمنا العلم الفلسطيني بألوانه الأربع، وحفظنا عن ظهر عشق أناشيد هللت فيها طفولتنا وصبانا ثورة لا تهدأ حتى موعد النصر..ياااااااااااه على حكايات جدي وهو يذكر كيف هب الشعب العربي للدفاع عن فلسطين، وعن الشعب الحزين، وكيف التحق عمي وهو صاحب الثمانية عشر ربيعاً للالتحاق بصفوف الثورة العربية..هذا الفتى الجميل الأسمر الذي لم يعد قط، وآثر أن يزف شهيداً في غور الأردن، لعيون فلسطين، العراق الثاني للعراقيين، ونور عين العرب...
وبرغم أن المثل يقول إن البعيد عن العين بعيد عن القلب، لكن لفلسطين مقام آخر، ومعادلة مغايرة تماماً لكل ما هو قائم.. فلسطين تسمو كلما كبرنا، وتضحي الغاية والمنى متى ما حلمنا.. فلسطين، تلك الحسناء الغافية على ألف جرح وجرح، هي موطن لكل العاشقين، والمؤلفة قلوبهم على وطن عزيز..
كلنا فلسطينيون وإن لم نحمل الجنسية الفلسطينية، ولكننا نحب فلسطين، مغلفة بالدم، مزركشة بأشلاء الأطفال والنساء والرجال.. نحبها حمراء، نعشقها برائحة الموت، ونفضلها جريحة...
هم ونحن، أوصلنا رسالة الجحيم إلى أجيال الغد، أن الصمت بانتظاركم، وإن العمى مصيب أشقائكم إن لم تتشظى أحلامكم أمام أعيننا.. وحين تنامون بهدوء، وتلاقوا النهار ببسمة المتعب الصامد، سنرشقكم بالصمت وبنظرات الشفقة، إن لم نمزق ما تبقى من خيامكم إمعانا في زيادة المأساة لتكونوا عنوان بالبونط العريض" كلنا غزة"..
غزة، بجدائلها اللوزية، عليها أن تكون مسيحاً آخر، وعلينا نحن أن نعبد لها طريق الآلام لتكون ستار سخطنا من أنفسنا، ودرب لإدخال مستعمر آخر باسم الجراح، وباسم صرخة طفل رضيع، ممزق اليدين والكفين..
وغزة، بشعبها فقط، فقط فقط.. بأصغر طفل فيها، لم يولد بعد. غزة، ببراءة طفل يحلم بطيارة ورقية وبكرة رخيصة تشبع أحلامه الكبيرة. غزة، بضحكات صبايا يلبسن فساتين مطرزة بدم أنامل أمهم وهي تشغلها ليلاً لتلبسها العروسة الصغيرة نهاراً، مع فردتي حذاء مهترء، وحقيبة يد بالية، تتراقص بيد الصغيرة الفرحة. غزة، بتجاعيد اختيار واقف أمام أطلال الماضي، حاملاً المفتاح، وسائلاً من يعود من الديار ومن لا يعود، إن حان الوقت أم لم يحن.. غزة، بقلب حاجة، تسبح الوطن ليل نهارا، حكايات وروايات عن فدائي في الأمس البعيد غاب تحت المطر، ولم يمت سوى ندى..
غزة، بأحلام شاب وصبية، يجتمع فيها الشمس والقمر تحت قباب سماء واحدة، ليكونا الغد الجميل..
غزة بكل هؤلاء، تصدت للصمت، للحقد، وللآتي من الويلات.. غزة ما هزمت يوماً، بل من يتكلم بإسمها يهزم، لأن الأقزام دوماً يدوسهم صمود الشعوب.. غزة لم تنتصر لأنهم أرادوها أن تنتصر، غزة منتصرة من قبل ومن بعد.. غزة، بكل جراحها تخوض معركتين، واحدة مع محتل وأخرى مع أقزام.. واحدة مع غاصب، وأخرى مع توابع..
غزة لا يتكلم باسمها سوى الشهداء..وهل يسمع صوت الشهداء؟! نعم، صوت الشهداء نضال مستمر، وحدة أرض وشعب، وانتصار للأرض والإنسان فقط، هذا هو صوت الشهداء، صوت الوطن، وكل الأصوات الأخرى نعيق، نشاز، كذب..
تلك الأصوات الصدئة، المزاودة، والمتسلقة جثث أهلنا في غزة، لتعلن أنها وحدها من صمدت، وقاومت، كاذبة..
تلك الأصوات التي تجتر الشعارات والأقوال، وتدمن المايكروفونات والتلفاز، ستهلك تحت أقدام النهضة الوطنية الشعبية، وتحت سماء الوحدة..
لن يتبق لأحد قول آخر.. لن يتلق أحد شكر ومديح آخر.. غزة لم تعر المتسابقين على عرش الملك، لكنها انتزعت جلودهم وأخلت عظامهم.. لم تبق هذه العظيمة لهم سوى العار، وأبقت لشعب فلسطين، صوت واحد فقط، كلنا فلسطين..