سئل فضيلة الشيخ الدكتور صادق بن محمد البيضاني السؤال التالي :
ما صحة قول من يقول : إن في الدين بدعة حسنة وبدعة سيئة عملًا بقول النبي عليه الصلاة والسلام : " من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده, من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم([1]) شيء "([2])؟
فأجاب فضيلته:
من يقول بتقسيم البدعة في الدين إلى حسنة وسيئة فقد جانب الصواب، لأن الأصل أن البدع في الدين كلها سيئة ومضلة مصداقًا لقول النبي عليه الصلاة والسلام " كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار "([3]).
إلا أن أهل البدع والمنكرات كالصوفية والشيعة ومن نحا نحوهم سوَّغوا لأنفسهم هذا التقسيم لينتصروا لمذهبهم الذي قام على مخالفة الدليل، معتقدين أن مثل هذه الشبه تزيل عنهم غبار ما هم عليه من الضلالات والبدع ولكن أنى لهم ذلك.
لأن من اعتصم بكتاب الله وسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام حتى وإن كان مِمَّنْ قَلَّ علمُه يجد خطأ وضلال الذين يسعون إلى مجارات اليهود والنصارى في تحريف دينهم وتعطيل أحكامه وتسويغ ما لم يأذن به الشرع بإحداث البدع في الدين, ولا يختلف الصحابة ومن تبعهم إلى يوم الدين أن البدع في الدين كلها مضلة لأنهم يدركون حقيقة قول النبي عليه الصلاة والسلام : "كل بدعة ضلالة"([4]) ويدركون قوله عليه الصلاة والسلام لما أخبر عن المبتدعة وقال : "قوم يستنون بغير سنتي ويهدون بغير هديّ([5]) تَعْرِفُ منهم وتُنْكِر"([6]). ويدركون خطر الفرق المضلة التي أوصى النبي عليه الصلاة والسلام حذيفة إن أدركها أن يعتزلها بقوله: " فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تَعض على أصل شجرة([7]) حتى يدركك الموت وأنت على ذلك "([8]).
بل ويدركون قوله عليه الصلاة والسلام لما وعظ أصحابه فقال: " أما بعد أيها الناس إنما أنا بشر يوشك([9]) أن يأتيني رسول ربي فأجيبه وإني تارك فيكم الثقلين([10]) أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور ومن استمسك([11]) به وأخذ به كان على الهدى ومن أخطأه تركه كان على الضلالة "([12]).
وهؤلاء المبتدعة تركوه ورغبوا عنه بهذه التقسيمات التي لها مغزى سيّء لرد أحكام الله .
وأهل السنة بحمد الله يدركون معنى قوله عليه الصلاة والسلام: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه([13]) فهو رد([14]) "([15]) وهؤلاء المبتدعة خفت مداركهم وتعطَّلت عقولُهم عن فهم مثل هذه النصوص .
أهل السنة والجماعة يؤمنون بمحكم القرآن ومتشابه ولذا فقائدهم هو سيد الأنبياء والمرسلين الذي تبرأ من الابتداع في الدين وأعلنها على الملأ كما قال الله على لسان نبيه : " قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا([16]) مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ "([17]).
أما المبتدعة فقد عَقِمَت ألسنتهم عن إعلان الاتباع وترك الابتداع حتى كذَّبوا قوله تعالى : " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا "([18]).
كذبوه بأعمالهم المبتدعة وكأن لسان حالهم يقول الدين ناقص .
وقد رد أهل السنة تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة بالأدلة التي ذكرنا وبغيرها من الأدلة المتكاثرة وذكر الإمام الشاطبي في الاعتصام تقسيم البدعة إلى قولية وفعلية واعتقادية وحقيقية وإضافية وشركية ثم قال : إلا وصف الضلال والابتداع ملازم لجميع هذه الأنواع, ثم بين رحمه الله منازل الإثم فيمن ابتدع في الدين وبين البدعة المفسقة والمكفرة.
فأهل السنة يعلمون يقينًا أن الابتداع في الدين خطير جدًا سواء كان في الأحكام الشرعية الفرعية كالصلاة والحج أو العقدية كالأسماء والصفات أو المنهجية التي من خالف سبيلها زجت به في تيه الضلال والتخريب .
وإني أنصح السائل أو من يقول بتقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة بقراءة كتب أهل السنة والجماعة وما كتبوه في الابتداع بمختلف أشكاله وأخص بالذكر كتاب الاعتصام للشاطبي وكتاب الإبداع في مضار الابتداع للشيخ علي بن محفوظ وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة لأبي القاسم اللالكائي وكتاب الباعث على إنكار البدع والحوادث لأبي شامة وكتاب البدع والمحدثات لأستاذنا عبد العزيز بن باز وابن عثيمين وغيرها من كتب أهل السنة, وكتب أهل السنة عمومًا كتب اتباع تحارب الابتداع في دين الله , وأما قول النبي عليه الصلاة والسلام: " من سن في الإسلام سنة حسنة" إلى آخر الحديث، فالمقصود من أحياها في زمن إماتتها.
وقوله : " من سن في الإسلام سنة سيئة " بمعنى أحيا بدعة قد ماتت ومات أهلها أو أحدثها من غير أن يُسبق إليها, هذا ما عليه علماء الإسلام في اتباع النبي عليه الصلاة والسلام .
ولو كان المعنى : "مَنْ سَنَّ في الإسلام سنة حسنة" بمعنى البدعة الحسنة لكان التناقض ملازمًا لقول النبي عليه الصلاة والسلام الذي يقول : " كل بدعة ضلالة "([19]) وهذا واضح البطلان لكل عاقل إلا أن أهل الشرائع والضلال الذين أرادوا تغيير محاسن الشريعة بأفهامهم السقيمة ونواياهم الخبيثة والطعن في سنة النبي عليه الصلاة والسلام ورواة الحديث والأثر غيروا وبدلوا واخترعوا أمورًا في ديننا لم يأذن بها الشرع .
ثم قوله عليه الصلاة والسلام : " مَنْ سَنَّ في الإسلام سنةً حسنةً .." إلى آخره له سبب ودافع حتى يقول مثل ذلك نبينا عليه الصلاة والسلام, وهذا الدافع يوضح لنا أن المقصود من الحديث من أحيا السنن وليس من اخترع وابتدع في الدين ما لم يأذن به الله .
فقد قال: الإمام مسلم في صحيحه من حديث جرير – رضي الله عنه - قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر النهار قال فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي([20]) النمار([21]) أو العباء([22]) متقلدي([23]) السيوف عامتهم من مضر بل كلهم من مضر فتمعر([24]) وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة([25]) فدخل ثم خرج فأمر بلالًا فأذن وأقام فصلى ثم خطب فقال : " َيا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ " إلى آخر الآية " إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ً "([26]).
والآية التي في الحشر : " اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ "([27]).
ثم قال : " تَصَدَّقَ رجل من ديناره, من درهمه, من ثوبه, من صاع بره, من صاع تمره"، حتى قال : " ولو بشق([28]) تمرة ".
قال فجاء رجل من الأنصار بِصُرَّة كادت كفه تعجز عنها بل قد عجزت.
قال : ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل([29]) كأنه مُذْهَبَةٌ([30]) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء "([31]).
فسبب الحديث أن النبي عليه الصلاة والسلام حسَّ بفاقة القوم وفقرهم فدعا إلى التصدق في زمن كثر فيه الفقر وقل فيه المال فتهلل وجهه لما الدين. الزكوات والصدقات قد تجمعت أمامه فرأى أن هؤلاء المتصدقين قد سنوا سنة حسنة بفعلهم هذا في وقت قل فيه المال فكأنهم أحيوا هذا الفعل في وقت حاجته فقال مقولته المشهورة الآنفة الذكر .
وأختم قولي بمثال جلي يدركه عامة الناس في أوضح صورة وأبلغ سياق في لزوم السنة والحذر من البدع وإن كانت البدعة في نظر البعض لا تضر في الدين .
وهذا يتضح تمام الاتضاح فيما أخرجه الشيخان من حديث البراء بن عازب – رضي الله عنه - قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام : "إذا أويت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن ثم قل : " اللهم أسلمت وجهي إليك([32]) إليك، وفوضت أمري إليك([33])، و ألجأت ظهري إليك([34]) رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك, اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت، فإن مت من ليلتك فأنت على الفطرة([35]) واجعلهن آخر ما تتكلم به"
قال : فرددتها على النبي عليه الصلاة والسلام فلما بلغت "اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت".
قلت : ورسولك قال : " لا ونبيك الذي أرسلت "([36]) فإنكار النبي عليه الصلاة والسلام اللفظ غير المسنون والذي تلفظ به البراء عن غير قصد الابتداع يدل على خطر ما هو أعظم من ذلك كإضافة الأحكام الغير شرعية إلى الشرع وحمل الناس عليها بنية التعبد وليس لها أصل في الشريعة مع أن قول البراء ورسولك لا يعارض الواقع لأن نبينا رسول بل خاتم المرسلين ومع ذلك قال له النبي عليه الصلاة والسلام : "لا" . وبالله التوفيق .
المصدر ( السؤال الثاني في كتاب المنتقى من الفتاوى) للشيخ صادق بن محمد البيضاني
([1]) سيئاتهم.
([2]) أخرجه مسلم في صحيحه [كتاب الزكاة, باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة وأنها حجاب من النار(2/704 رقم 1017)] من حديث جرير بن عبد الله.
([3]) أخرجه مسلم في صحيحه [كتاب الجمعة, باب تخفيف الصلاة والخطبة(2/592 رقم 867)] من حديث جابر بن عبد الله, بدون: "وكل ضلالة في النار".
([4]) أخرجه مسلم في صحيحه [كتاب الجمعة, باب تخفيف الصلاة والخطبة(2/592 رقم 867)] من حديث جابر بن عبد الله.
([5]) منهاجي.
([6]) أخرجه البخاري في صحيحه [كتاب المناقب, باب علامات النبوة في الإسلام(3/1319 رقم 3411)], ومسلم في صحيحه [كتاب الإمارة, باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن وفي كل حال وتحريم الخروج على الطاعة ومفارقة الجماعة(3/1475 رقم 1847)] كلاهما من حديث حذيفة بن اليمان, واللفظ لمسلم.
([7]) كناية عن الصبر.
([8]) أخرجه البخاري في صحيحه [كتاب المناقب, باب علامات النبوة في الإسلام(3/1319 رقم 3411)], ومسلم في صحيحه [كتاب الإمارة, باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن وفي كل حال وتحريم الخروج على الطاعة ومفارقة الجماعة(3/1475 رقم 1847)] كلاهما من حديث حذيفة بن اليمان, واللفظ لمسلم.
([9]) يقرب.
([10]) سميا ثقلين لعظمهما وكبير شأنهما وقيل لثقل العمل بهما.
([11]) مبالغة في التمسك.
([12]) أخرجه النسائي في سننه الكبرى [كتاب المناقب, العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه(5/51 رقم 8175)] من حديث زيد بن أرقم , وقريب من هذا اللفظ في صحيح مسلم.
([13]) اختراع شيء في دينه بما ليس فيه مما لا يوجد في الكتاب والسنة.
([14]) مردود بمعنى باطل غير معتد به.
([15]) أخرجه البخاري في صحيحه [كتاب الصلح,باب إِذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود(10/17 رقم 2697)], ومسلم في صحيحه [كتاب الأقضية, باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور(3/1343 رقم 1718)] كلاهما من حديث عائشة .
([16]) بديعياً(ليس لي مثال) فلست أول رسول فقد بعث الله قبلي كثيرًا من الرسل أو كما كان الرسل لا يأتون بكل ما يطلب منهم من الآيات كذلك الرسول صلى الله عليه وسلم.
([17]) سورة الأحقاف, الآية (9).
([18]) سورة المائدة, الآية (3).
([19]) أخرجه مسلم في صحيحه [كتاب الجمعة, باب تخفيف الصلاة والخطبة(2/592 رقم 867)] من حديث جابر بن عبد الله.
([20]) خرقوها وقوروا وسطها.
([21]) كل شملة مخططة من مآزر الأعراب كأنها أخذت من لون النمر لما فيها من السواد والبياض وهي من الصفات الغالبة أي جاءه قوم لابسي أزر مخططة من صوف.
([22]) جمع عباءة.
([23]) التقلد جعل نجاد السيف (مِحْمَلاه اللذان طَرَفاهما في الابْزيَميْن) على المنكب.
([24]) انقبض وتغير ومادة تمعر ميم وعين مهملة وراء وأصله في الشجر إذا قل ماؤه فصال قليل النضرة عديم الإشراق ويقال للوادي المجدب أمعر.
([25]) الفقر.
([26]) سورة النساء, الآية (1).
([27]) سورة الحشر, الآية (18).
([28]) بنصف.
([29]) يستنير ويظهر عليه أمارات السرور.
([30]) مموهة بالذهب فهذا أبلغ في حسن الوجه وإشراقه أو هو تشبيه بالمذهبة من الجلود وهي شيء كانت العرب تصنعه من جلود وتجعل فيه خطوطًا.
([31]) أخرجه مسلم في صحيحه [كتاب الجمعة, باب تخفيف الصلاة والخطبة(2/592 رقم 867)] من حديث جابر بن عبد الله.
([32]) ذاتي وجوارحي وباطني(استسلمت وانقدت).
([33]) المدبر للأمور ظاهرها وباطنها.
([34]) اعتمدت عليك.
([35]) الإسلام.
([36]) أخرجه البخاري في صحيحه [كتاب الوضوء, باب فضل من بات على الوضوء(1/97 رقم 244)] من حديث البراء بن عازب.