مدرسة الفقه الإسلامي للشيخ الدكتور/ صادق بن محمد البيضاني
الدرس الأول
إسم الدرس : مدرسة الفقه الإسلاميرقم1 -دراسة الأحكام الشرعية مع ذكر مذاهب العلماء وأدلتهم وبيان الراجح في المسائلبأخصر العبارات.
للشيخ الدكتور : صادق بن محمدالبيضاني
المصدر : قناة الأثرالفضائية وموقع الشيخ صادق البيضاني على الرابط :
www.baidhani.comرقم الشريط (1).
تفريغ وحواشي : محمد بن علي دحروج أحدطلبة الشيخ.
المقدمة الأولى
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحابته أجمعين اللهم لا علم لنا إلا ماعلمتنا إنك أنت العليم الحكيم اللهم لا فهم إلا ما فهمتنا إنك أنت الجواد الكريم, أما بعد : فهذا الدرس عنوانه مدرسة الفقه, وهناك :
قضايا لها أهميتها قبل البدء في هذه السلسلة المباركة من دروس الفقه الإسلامي أجملها في التالي :
أ- القضية الأولى: هناك مسائل فقهية ورد تفاصيلها في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم, وهي على ثلاثة أقسام:
1) القسم الأول: مسائل فعلية: أي فيها الأمر بفعل أمر ما, فتتعلق بالفعل ودليلها تفصيلي, من ذلك إقامة الصلاة, قال الله عز وجل فيها: "وأقيموا الصلاة"([1]), فهذا الدليل دل على وجوب الصلاة فسمي مفصلًا؛ لأنه ورد مفصلًا في الكتاب وكذا في السنة فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال كما في الصحيحين: "بني الإسلام على خمس"([2]), وذكر من ذلك "وإقام الصلاة", فهذا يقال له دليل تفصيلي, والفعل قد يكون واجبًا وقد يكون مستحبًا كما ستأتي أمثلته من خلال الدروس القادمة بمشيئة الله.
2) القسم الثاني: مسائل تتعلق بالترك: أي فيها الأمر تركي, ودليلها تفصيلي, ومن ذلك ما جاء في قول الله عز وجل: "إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه"([3]), هذا دليل تفصيلي في ترك الخمر والميسر والأنصاب والأزلام وأنها رجس محرمة, ومن ذلك ما ورد عن النبي صلى الله وعلى آله وسلم أنه: نهى عن لبس الحرير([4]), والترك يرد على سبيل التحريم وقد يرد على سبيل الكراهة كما ستأتي أمثلته من خلال الدروس القادمة بمشيئة الله.
3) القسم الثالث: مسائل فيها التخيير وهو: الإباحة؛ فإن الله عز وجل أباح لنا الألبسة التي لم ينه عنها التشريع وأباح لنا أن نشرب الماء ونطعم الطعام متى شئنا فهذا مما ورد دليله مفصلًا في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ب- القضية الثانية: أن هناك مسائل فقهية دليلها إجمالي بمعنى لا دليل عليها مفصلاً في الكتاب أو السنة, لكن نقل فيها الإجماع عن الصحابة أو اتفاق العلماء, ومن أمثلتها: عدم جواز تزويج المسلمة من كتابي؛ فهذا لم يرد فيه نص ينهى عن هذا النوع من التزويج؛ لكنه يؤخذ من أدلة مجملة كقول الله عز وجل: "ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا"([5]).
ت- القضية الثالثة: أن هناك مسائل احتاجت إلى آلة الاجتهاد ودخلت في أدلة إجمالية ولم يرد فيها نص مفصل, فأفتى فيها علماء الأمة على مجمل كثير من الأدلة وإن كان في بعضها مقال من حيث الاستدلال لكن كثراً منها موافق لجملة المصالح ودرء المفاسد وسيصادفنا أمثلة كثيرة ترد في موضعها إن شاء الله ومن أمثلة ذلك ظهور بناء المنارات حتى يفرق بينها وبين الكنائس وحتى تكون دليلاً على أماكن المساجد لمن كان غريباً على البلد النازل فيها على قول بعض أهل العلم.
ومن المسائل التي طريقها الاجتهاد: المسائل العارضة التي تحصل من عصر إلى عصر.
ومن هذه المسائل في عصرنا الحاضر : مسألة أطفال الأنابيب ومسألة العقاقير التي ركبت من بعض الحيوانات المنوية من الإنسان أو الحيوان, لعلاج الشخص المصاب بضعف الإخصاب ومسألة البنوك الإسلامية ومسائل كثيرة تتعلق بالأسهم والشركات والتأمينات منها ما يوافق الشرع في الجملة ومنها ما يخالف.
ث- القضية الرابعة: أن هناك مسائل حدثت في عهد الصحابة ومن بعدهم وليست عصرية: قد ينفرد الصحابي عن الصحابة أو غيره عن غيرهم بالخوض في حكمها أو يختلفوا, ولم يرد فيها دليل أو إجماع أو اتفاق.
أهمية الفقه الإسلامي: من لا يعرفه لا يستطيع أن يتعرف على الحلال والحرام, ولن يسعد المسلمون إلا بمعرفة الفقه الإسلامي وأحكامه الشرعية كما قال الإمام الشافعي:
رأيتُ العلمَ صاحبُه كريمٌ........ولو ولدته آباء لئــــــــامُ
وليس يزال يرفعه إلى أنْ........يُعَظِّمَ أمرَه القومُ الكــــــرامُ
ويتّبعونه في كـــل وادٍ.......كراعي الضأن تتبعه السَّـــوامُ
فلولا العلمُ ما سَعِدَتْ رجالٌ.......ولا عُرف الحلال من الحــرامُ
مقدمات ومبادئ ينبغي التنبيه عليها قبل أن نخوض في مسائل الفقه:
المقدمة الأولى: معنى الفقه:
الفقه لغةً: الفهم, وقيل الفهم الدقيق النافذ ؛ وهذا مأخوذ من قول الله عز وجل "قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرًا مما تقول"([6]) بمعنى "لا نفهم", وأيضًا مأخوذ من قوله تعالى " فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين" بمعنى ليتفهموا "ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم"([7]).
وأما في الاصطلاح, فله عدة معان منها:
1) الإدراك؛ لقوله سبحانه: " وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم"([8]) بمعنى لا تدركون, ومن الشريعة ما يدرك فإن مَنْ تعلم العلم أدرك المسائل الفقهية ومن لم يتعلم العلم فلن يدرك هذه المسائل حتى يتعلم.
2) معرفة الأحكام الشرعية بأدلتها التفصيلية أو ما طريقه الاجتهاد, فما دليله تفصيلي تقدم كما في قوله تعالى: "وأقيموا الصلاة"([9]), وما طريقه اجتهادي تقدم, وذلك كالمسائل العارضة فدليلها لم يُفصل في الكتاب والسنة واستدل فيها بأدلة مجملة, وما كان دليله على سبيل الإجمال لا شك أن المجتهد سيجتهد فيه ثم يحكم بما يراه وقد يخالف غيره والصواب لمن كان دليله قويًا.
تاريخ الفقه الإسلامي
مر الفقه الإسلامي بثلاثة مراحل:
المرحلة الأولى: المرحلة العامة " الكلية " فلم يكن الفقه في بداية أمره ما نُعَرِّفه به اليوم من أنه: معرفة الأحكام الشرعية بأدلتها التفصيلية من طهارة وصلاة وزكاة وصوم ونحوها, بل كان في بداية الأمر كما عرفه الإمام أبو حنيفة أنه: "معرفة النفس ما لها وما عليها", فدخل في تعريفه: معرفة العقائد والتوحيد, وما يتعلق بالوجدانيات: وهي المتعلقة بالقلب والنوايا كالحسد والحقد والكراهية والرياء, وما يتعلق بالأخلاق والآداب: كالتواضع وخفض الجناح, هذا فضلًا عن دخول الأحكام شرعية كأحكام الصلاة وغيرها في هذا التعريف من باب أولى.
فهذا كله يدخل في تعريف الفقه عند أبي حنيفة؛ ولذا نجد أن الإمام أباحنيفة لما ألف كتاب العقائد سماه "الفقه الأكبر": وهو أصول الدين وهذا هو الفقه الأول الذي يجب على المسلم أن يتعرف عليه, فيتعرف على ما يجب عليه نحو ربه من توحيد الربوبية والألوهية والإسماء والصفات, وما يتعلق بالحذر من الشرك ونحوه.
المرحلة الثانية: جعل فيها العلماء الفقه عبارة عن: "معرفة الأحكام الشرعية", فخرج ما يتعلق بالعقائد وبقي ما يتعلق بالوجدانيات والأخلاق فضلًا عن الأحكام الفرعية التفصيلية العملية كأحكام الصلاة وغيرها؛ فنجد أن في هذه المرحلة ادخال فقه بعض الأخلاق والآداب, بل ومضى على ذلك فيما يظهر الحافظ ابن حجر كما في كتابه بلوغ المرام, وأدخل البعض: ما يتعلق بالوجدانيات كالحسد والكراهية ولكن ليس في الجملة كالمرحلة الأولى.
المرحلة الثالثة: وهي المرحلة المتأخرة والتي خص فيها الفقه الإسلامي بأنه: ما يتعلق بالأحكام الشرعية التفصيلية العملية وما طريقه الاجتهاد, وعلى ذلك لن يكون كلامنا متعلقًا بأحكام الأخلاق أو الوجدانيات أو العقائد, وإنما سيكون متخصصًا ببيان الأحكام الشرعية الفرعية التفصيلية العملية أعني المرحلة الثالثة لأنها صارت المقصودة من الفقه إذا أطلق.
مسميات الفقه: له عدة مسميات ومعاني, منها:
1) شِرْعة: وقد سماه ربنا سبحانه بهذا الإسم كما في قوله تعالى: "لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا"([10]).
2) شريعة: ودليله قوله سبحانه "ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها"([11]), أي على فقه في الدين.
3) الدين الإسلامي: لقول النبي عليه الصلاة والسلام: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد"([12]), أمرنا بمعنى: ديننا.
موضوع الفقه الأسلامي وما يتعلق به هو: أفعال المكلفين من حيث الترك أو الفعل أو التخيير؛ لأن الشريعة الإسلامية جاءت بخمسة أحكام:
الأول: الوجوب, كـ "أقيموا الصلاة"([13]) الحكم فيها الوجوب.
الثاني: الاستحباب, كـحكم تحية المسجد عند دخوله على الراجح؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: " إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين"([14]).
الثالث: التحريم, ومن ذلك قوله تعالى: "ولا تقربوا الزنا"([15]).
الرابع: الكراهة, لدليل يعارض الدليل الذي ظاهره التحريم إذا لم يتبين النسخ, وذلك كحكم الصلاة في الأوقات المنهي فيها, وفي ذلك حديث النبي عليه الصلاة والسلام "ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه و سلم ينهانا أن نصلي فيهن أو أن نقبر فيهن موتانا"([16]), وذكر منها: "وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب"؛ فإن تحية المسجد مستحبة للدليل السابق: "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين"([17]).
لكن لو صلاها في وقت النهي فقد وقع في الكراهة؛ لأنه عارض ذلك الاستحباب دليل النهي الظاهر.
الخامس: التخيير: بمعنى الإباحة من الشرب أو اللباس وما إلى ذلك.
شروط من يصح تكليفه:
الأول: العقل: لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول كما في الحديث الذي في مسند أحمد وعند بعض أهل السنن عن عائشة وجماعة من الصحابة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "رفع القلم عن ثلاث", بمعنى: رفع الحكم الشرعي عن ثلاثة, "عن النائم حتى يستيقض وعن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون حتى يعقل"([18]), فالمجنون لو صلى لم تقبل صلاته؛ لأنه لا يدرك ذلك, كيف والله عز وجل يقول في كتابه الكريم: "ولا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى"([19]), لماذا؟؛ لعدم الإدراك, والذي يسكر هو أهون من الذي لا عقل له من حيث خاصية بقاء العقل وذهابه.
الثاني: البلوغ: ودليله ما ورد في الحديث السابق "والصبي حتى يحتلم".
الثالث: الإسلام, فلا يقول قائل الكافر بالغ وهو عاقل, فقد قال تعالى: "إن الدين عند الله الإسلام"([20]), وقال سبحانه "ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه"([21]), فالكافر يطالب بالعبادات وبفروع الشريعة كالصلاة والصيام, لكنه لن يقبل منه حتى يأتي بالمفتاح, وهو شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؛ ولذا يقول الله عز وجل عن أهل الكفر وما سيحصل لهم يوم القيامة: "ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين"([22]), فلو أطعموا المسكين أو صلوا أو لم يخوضوا كانوا من أهل النار؛ لأنهم لم يأتوا بالمفتاح الذي يدخلهم الإسلام وهو الشهادتان.
________________________________________
([1]) سورة البقرة, الآية (43).
([2]) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن عمر.
([3]) سورة المائدة, الآية (90).
([4]) أخرجه الترمذي في سننه من حديث أبي موسى وقال حديث حسن صحيح.
([5]) سورة النساء, الآية (141).
([6]) سورة هود, الآية (91).
([7]) سورة التوبة, الآية (121).
([8]) سورة الإسراء, الآية (44).
([9]) سورة البقرة, الآية (43).
([10]) سورة المائدة, الآية (48).
([11]) سورة الجاثية, الآية (18).
([12]) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أم المؤمنين عائشة.
([13]) سورة البقرة, الآية (43).
([14]) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي قتادة, واللفظ للبحاري.
([15]) سورة الإسراء, الآية (32).
([16]) أخرجه مسلم في صحيحه من حديث عقبة بن عامر الجهني.
([17]) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي قتادة, واللفظ للبحاري.
([18]) أخرجه أحمد في مسنده والنسائي في سننه وغيره من أصحاب السسن عن أم المؤمنين عائشة.
([19]) سورة النساء, الآية (43).
([20]) سورة آل عمران, الآية (19).
([21]) سورة آل عمران, الآية (85).
([22]) سورة المدثر, الآية [45:42].